يأتي اختيار الاهتمام بطرق تدبير الموارد المائية في العهد المصري القديم محورا لمعرض "من النيل إلى الإسكندرية" الذي يستضيفه حتى نهاية شهر مايو 2010، متحف الأثريات بمدينة نوشاتيل في سياق الاستجابة الواعية لمتطلبات مرحلة باتت فيها قضايا البيئة تتصدر اهتمام جميع الأمم في عالم اليوم.
في الإسكندرية، كما هو الحال في العديد من مناطق العالم، وفي الشرق الأوسط، على وجه الخصوص، تحولت معضلة المياه تحديا مزمنا بل خطيرا، أما هذا المعرض فيتمثل هدفه في إعطاء أفق تاريخي، وتقديم نموذج حي للباحثين المعاصرين عن حلول لهذه الأزمة.
ويشرح دنيس رامزيار، المرشد بمتحف نوشاتيل أبعاد هذا الاختيار، فيقول: "عندما تواعدت على تنظيم هذا المعرض مع مدير الحفريات التاريخية بالإسكندرية الفرنسي جون – إيف امبيرور، كنت أظن أن الاهتمام سوف يتركز على ما تشتهر به مدينة الإسكندرية من معالم أثرية كمنارتها العالية، ومكتبتها الزاخرة، والأهرامات الشهيرة، لكن الأخير أصر على أن تكون موارد المياه في الإسكندرية موضوعا لهذا المعرض".
فقد تميّز هذا المركز الحضاري المتوسطي منذ القدم بافتقاره لأية موارد مائية غير مياه البحر بالمقارنة مع بقية المدن الواقعة على حوض البحر الأبيض المتوسط، وحتى اليوم لازال سكان المدينة - ثاني أكبر المدن المصرية - يعيش على المياه التي تُجلب من النيل الذي يبعد عنها 30 كيلومترا، لكن لم يمنعها ذلك من تحقيق ازدهار اقتصادي وحضاري أطلّ إشعاعه على المنطقة بأكملها.
كذلك لا يخلو الأسلوب الذي عرضت به التحف والآثار التاريخية، والطريقة التي وزعت بها في بهو كبير وشاسع من جمالية وطرافة في محاولة جادة من المنظمين للفت أنظار الزوار إلى الاستعمالات المختلفة للثروة المائية في العصور القديمة.
ومنذ أن تلج باب المعرض، تجد نفسك أمام رسم كبير لجغرافية المنطقة يغطي أرضية البهو، يبدأ من هضبة النيل جنوبا، في صعود مستمر إلى مدينة الإسكندرية شمالا، مرفقا بنصوص حول التراث الديني، والآلهات والقديسين الذين حفلت بهم مخيلة السكان المحليين عبر القرون المتعاقبة، ليصل الزائر في وسط البهو، حيث يجد رسوما ونصوصا تجسّم الطرائق والتقنيات التي استخدمها القدامى في جلب المياه وتخزينها.
ويتواصل المعرض من خلال اللافتات والمجسمات للعديد من الإختراعات التاريخية التي شهدتها الإسكندرية قديما، وكلها على علاقة بمحور المياه، كالأدوات الموسيقية (الأورج الهيدروليكي)، وأدوات قياس الزمن، والآلات الميكانيكية التي استخدمت في استخراج المياه من الآبار، لينتهي الجناح الأخير إلى عرض طرق استغلال المياه في مراحل حديثة نوعا ما، كجلب المياه في الحاويات المصنوعة من الفخّار، وأنواع المراكب التي استخدمت للإبحار في مياه النيل.
تنظيم هذا المعرض حول ندرة المياه، في سويسرا، البلد الذي يشتهر بثروته المائية الهائلة لكثرة بحيراته، وتعدد أنهاره الجبلية، ومناطقه الجليدية، بحسب دنيس رمزايار، أمر مدبّر بعناية، ويهدف إلى "لفت أنظار الجمهور السويسري إلى أن الماء كنز ثمين لا يجب الإسراف فيه وتبذيره"، وفي هذه المقارقة، يقول رامزيار: "بين بلد يزخر بمجاري المياه، وبلد قطرة الماء فيه تساوي الحياة، تكمن أهمية المعرض، فلكي يدرك السويسري النعم التي يتمتع بها عليه أن يعرف أخطار الجفاف والعطش التي تهدد الملايين من المصريين اليوم".
كذلك، هذا العمل هو ردّ على القائلين بأن المؤرخين وعلماء الحفريات الأثرية (الأركيولوجيين) لا يهتمّون إلا بالماضي. فالإطلالة التي يقدمها حول اسلوب القدامى في تدبير الموارد المائية، تثبت ان كل الأمم والشعوب عرفت في العصور المتعاقبة مشكلات بيئية على نفس الدرجة من الخطورة، وبفضل ذكاء أبنائها وعبقريتهم، استطاعت إيجاد الحلول المناسبة لأزماتها.
والمعرض بهذا المعنى يقدّم أفقا تاريخيا رحبا للذين يرومون حلول لازمات هذا العصر، ويوجّه تحذيرا للبشرية من مغبة التغافل عن أزمة مرتقبة في مجال المياه الصالحة للشرب، إذا لم تغيّر من أساليب تدبيرها لهذه الثروة النادرة، والأولى ببلدان الشرق الأوسط خاصة الساحلية منها الاستماع إلى هذا التحذير، نظرا لارتفاع نسبة الملوحة في قاعدتها المائية الجوفية، ونضوب مدخراتها بسبب الاستهلاك المفرط.
أما المجسمات المعروضة فتقدّم فكرة واضحة على الحكمة البالغة التي تميّز بها المصريين منذ العهد الإغريقي، ومن ذلك مثلا تشييدهم لصهاريج طينية في باطن الأرض للإحتفاظ بمياه الأمطار، وتلك التي يفيض بها النيل على مناطق مجاورة شاسعة.
ثم طورت هذه الصهاريج في العصر الإسلامي عبر توسعة قدرتها على الإستيعاب، ووضع أساليب جديدة في تخزين المياه، وحمايتها من الإختلاط بالمياه المالحة خاصة بعد حصول الزلزال البحري الذي هزّ السواحل المصرية سنة 300 ميلادي، مما ادى إلى تراجع جودة المياه في تلك المناطق. ومع دخول الأتراك إلى مصر، شُيّدت خزانات من نوع جديد، في علوّ عن سطح الأرض، ومسنودة إلى أعمدة رأسية، ومحكمة الغطاء.
وبفضل هذه المرافق البدائية، كانت الإسكندرية تؤمّن تزوّدها بالماء الصالح للشرب لمدة أشهر عديدة في السنة، إلى حين مجيء فصل المطر، أو دورة فيضان النيل. وهكذا دواليك إلى أن حدث الإحتلال البريطاني للمدينة حيث مدّت قنوات المياه الحديثة الصنع.
وبخصوص الدروس التي يجب أن تستفيدها البشرية اليوم من الطريقة التي أدارت بها الحضارة المصرية القديمة ندرة المياه، يقول رمزيار: "يجب أوّلا تصحيح نظرتنا إلى الموارد المائية، واعتبارها كنزا ثمينا لا يصح تبذيره أو سوء إستغلاله، وثانيا الإنتباه إلى أن الإستمرار في سوء إدارة هذه الثروة النادرة قد يخلق في المستقبل المنظور مشكلات لن تقوى البشرية على مواجهتها بسهولة، وبهذا المعنى يمثل المعرض دعوة للتعقّل والتفكير".
مع ذلك يُبقى المعرض الباب مفتوحا لطرح العديد من الأسئلة ومنها: لماذا الإقتصار على مدينة الإسكندرية فقط، والحال أن العديد من المدن المصرية الأخرى تعيش هي أيضا على التزوّد من مياه النيل؟ ولماذا التوسّع في استعراض العصر الروماني، وإغفال العصور اللاحقة، إلا من إشارات طفيفة ومقتضبة؟ ولماذا أيضا عدم التطرّق بشكل أكبر لمشكلة المياه اليوم في الشرق الأوسط، وعمليات النهب المنظمة التي تمارسها بعض القوى في المنطقة لهذه الموارد، في حين تُحرم منها شعوب أخرى مغلوبة على أمرها؟ أسئلة يطرحها الزوار وقد تجيب عنها معارض أو تظاهرات أخرى في مناسبات قادمة.
www.ahlawia.com
www.damnhour.com
www.egypt4fun.com
www.egyonair.com